فصل: بَيَانُ أَعْيَانِ الشُّرُوطِ الَّتِي تَعَلَّقَ بِهَا الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.بَيَانُ أَعْيَانِ الشُّرُوطِ الَّتِي تَعَلَّقَ بِهَا الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ:

(وَأَمَّا) بَيَانُ أَعْيَانِ الشُّرُوطِ الَّتِي تَعَلَّقَ بِهَا الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ فَالشُّرُوطُ الَّتِي تَعَلَّقَ بِهَا الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ لَا سَبِيلَ إلَى حَصْرِهَا لِكَثْرَتِهَا لِتَعَلُّقِهَا بِاخْتِيَارِ الْفَاعِلِ فَنَذْكُرُ الْقَدْرَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا فِي كُتُبِهِمْ، وَالْمَذْكُورُ مِنْ الشُّرُوطِ فِي كُتُبِهِمْ نَوْعَانِ:
أَفْعَالٌ حِسِّيَّةٌ: وَأُمُورٌ شَرْعِيَّةٌ.

.أَفْعَالٌ حِسِّيَّةٌ:

أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ: فَالدُّخُولُ وَالْخُرُوجُ وَالْكَلَامُ وَالْإِظْهَارُ وَالْإِفْشَاءُ وَالْإِعْلَامُ وَالْكَتْمُ وَالْإِسْرَارُ وَالْإِخْفَاءُ وَالْبِشَارَةُ وَالْقِرَاءَةُ وَنَحْوُهَا وَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالذَّوْقُ وَالْغَدَاءُ وَالْعَشَاءُ وَاللِّبْسُ وَالسُّكْنَى وَالْمُسَاكَنَةُ وَالْإِيوَاءُ وَالْبَيْتُوتَةُ وَالِاسْتِخْدَامُ وَالْمَعْرِفَةُ وَقَبْضُ الْحَقِّ وَالِاقْتِضَاءُ وَالْهَدْمُ وَالضَّرْبُ وَالْقَتْلُ وَغَيْرُهَا.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: وَهُوَ الْحَلِفُ عَلَى أُمُورٍ شَرْعِيَّةٍ وَمَا يَقَعُ مِنْهَا عَلَى الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ وَعَلَى الصَّحِيحِ دُونَ الْفَاسِدِ كَالْعَطِيَّةِ وَالْهِبَةِ وَالْكِسْوَةِ وَالرُّكُوبِ وَالْجُلُوسِ وَالصَّدَقَةِ وَالْإِعَارَةِ وَالْقَرْضِ وَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالشِّرَاءِ وَالتَّزَوُّجِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَأَشْيَاءَ أُخَرَ مُتَفَرِّقَةٍ نَجْمَعُهَا فِي فَصْلٍ وَاحِدٍ فِي آخِرِ الْكِتَابِ، وَالْأَصْلُ فِي هَذِهِ الشُّرُوطِ أَنْ يُرَاعَى فِيهَا لَفْظُ الْحَالِفِ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى الْمَعْنَى لُغَةً وَمَا يَقْتَضِيهِ مِنْ الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ وَالتَّعْمِيمِ وَالتَّخْصِيصِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَانِي كَلَامِ النَّاسِ بِخِلَافِهِ فَيُحْمَلُ اللَّفْظُ عَلَيْهِ وَيَكُونُ ذَلِكَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً وَإِنَّهَا تَقْضِي عَلَى الْحَقِيقَةِ الْوَضْعِيَّةِ.
وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَقَالَ: إنَّ صَاحِبًا لَنَا مَاتَ وَأَوْصَى بِبَدَنَةٍ أَفَتُجْزِئُ عَنْهُ الْبَقَرَةُ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِمَّنْ صَاحِبُكُمْ؟ فَقَالَ السَّائِلُ: مِنْ بَنِي رَبَاحٍ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَتَى اقْتَنَتْ بَنُو رَبَاحٍ الْبَقَرَ إنَّمَا الْبَقَرُ لِلْأَزْدِ وَذَهَبَ وَهْمُ صَاحِبُكُمْ إلَى الْإِبِلِ فَهَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ أَصِيلٌ فِي حَمْلِ مُطْلَقِ الْكَلَامِ عَلَى مَا يَذْهَبُ إلَيْهِ أَوْهَامُ النَّاسِ وَلِأَنَّ الْعُرْفَ وَضْعٌ طَارِئٌ عَلَى الْوَضْعِ الْأَصْلِيِّ، وَالِاصْطِلَاحُ جَارٍ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ يَقْصِدُ بِكَلَامِهِ ذَلِكَ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ مُطْلَقُ اللَّفْظِ، وَبِهَذَا يَبْطُلُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: إنَّ الْأَيْمَانَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْحَقَائِقِ يُؤَيِّدُ مَا قُلْنَا أَنَّ الْغَرِيمَ يَقُولُ لِغَرِيمِهِ: وَاَللَّهِ لَأَجُرَّنَّكَ فِي الشَّوْكِ يُرِيدُ بِهِ شِدَّةَ الْمَطْلِ دُونَ الْحَقِيقَةِ وَقَوْلُ مَالِكٍ: الْأَيْمَانُ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ غَيْرُ سَدِيدٍ أَيْضًا بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَجْلِسُ فِي سِرَاجٍ فَجَلَسَ فِي الشَّمْسِ لَا يَحْنَثُ، وَإِنْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الشَّمْسَ سِرَاجًا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَجَعَلْنَا الشَّمْسَ سِرَاجًا}.
وَكَذَا مَنْ حَلَفَ لَا يَجْلِسُ عَلَى بِسَاطٍ فَجَلَسَ عَلَى الْأَرْضِ لَا يَحْنَثُ وَإِنْ سَمَّاهَا اللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ بِسَاطًا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاَللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ بِسَاطًا}.
وَكَذَا مَنْ حَلَفَ لَا يَمَسُّ وَتَدًا فَمَسَّ جَبَلًا لَا يَحْنَثُ وَإِنْ سَمَّى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْجَبَلَ وَتَدًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} فَثَبَتَ أَنَّ مَا قَالَهُ مَالِكٌ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: الْحَلِفُ عَلَى الدُّخُولِ:

أَمَّا الْحَلِفُ عَلَى الدُّخُولِ فَالدُّخُولُ اسْمٌ لِلِانْفِصَالِ مِنْ الْعَوْرَةِ إلَى الْحِصْنِ، فَإِنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ وَهُوَ فِيهَا فَمَكَثَ بَعْدَ يَمِينِهِ لَا يَحْنَثُ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَحْنَثَ، ذَكَرَ الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ فِي الْأَصْلِ.
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى الْفِعْلِ حُكْمُ إنْشَائِهِ كَمَا فِي الرُّكُوبِ وَاللُّبْسِ، بِأَنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ وَلَا يَلْبَسُ وَهُوَ رَاكِبٌ وَلَابِسٌ فَمَكَثَ سَاعَةً أَنَّهُ يَحْنَثُ لِمَا قُلْنَا، كَذَا هَذَا.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ وَهُوَ أَنَّ الدَّوَامَ عَلَى الْفِعْلِ لَا يُتَصَوَّرُ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الدَّوَامَ هُوَ الْبَقَاءُ، وَالْفِعْلَ الْمُحْدَثُ عَرَضٌ، وَالْعَرَضُ مُسْتَحِيلُ الْبَقَاءِ فَيَسْتَحِيلُ دَوَامُهُ، وَإِنَّمَا يُرَادُ بِالدَّوَامِ تَجَدُّدُ أَمْثَالِهِ وَهَذَا يُوجَدُ فِي الرُّكُوبِ وَاللُّبْسِ وَلَا يُوجَدُ فِي الدُّخُولِ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِلِانْتِقَالِ مِنْ الْعَوْرَةِ إلَى الْحِصْنِ، وَالْمُكْثُ قَرَارٌ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ انْتِقَالًا يُحَقِّقُهُ أَنَّ الِانْتِقَالَ حَرَكَةٌ وَالْمُكْثَ سُكُونٌ وَهُمَا ضِدَّانِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ أَنَّهُ يُقَالُ رَكِبْت أَمْسُ وَالْيَوْمَ وَلَبِسْت أَمْسُ وَالْيَوْمَ مِنْ غَيْرِ رُكُوبٍ وَلُبْسٍ مُبْتَدَإٍ وَلَا يُقَالُ دَخَلْت أَمْسُ وَالْيَوْمَ إلَّا لِدُخُولٍ مُبْتَدَإٍ وَكَذَا مَنْ دَخَلَ دَارًا يَوْمَ الْخَمِيسِ وَمَكَثَ فِيهَا إلَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَقَالَ وَاَللَّهِ مَا دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَرَّ فِي يَمِينِهِ لِذَلِكَ افْتَرَقَا.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ أَوْ لَا يَلْبَسُ وَهُوَ رَاكِبٌ أَوْ لَابِسٌ فَنَزَلَ مِنْ سَاعَتِهِ أَوْ نَزَعَ مِنْ سَاعَتِهِ لَا يَحْنَثُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ.
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ شَرْطَ حِنْثِهِ الرُّكُوبُ وَاللُّبْسُ وَقَدْ وُجِدَ مِنْهُ بَعْدَ يَمِينِهِ وَإِنْ قَلَّ.
(وَلَنَا) أَنَّ مَا لَا يَقْدِرُ الْحَالِفُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ يَمِينِهِ فَهُوَ مُسْتَثْنًى مِنْهُ دَلَالَةً؛ لِأَنَّ قَصْدَ الْحَالِفِ مِنْ الْحَلِفِ الْبِرُّ، وَالْبِرُّ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِاسْتِثْنَاءِ ذَلِكَ الْقَدْرِ، وَسَوَاءٌ دَخَلَ تِلْكَ الدَّارَ مَاشِيًا أَوْ رَاكِبًا؛ لِأَنَّ اسْمَ الدُّخُولِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْكُلِّ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ دَخَلْت الدَّارَ مَاشِيًا وَدَخَلْتُهَا رَاكِبًا، وَلَوْ أَمَرَ غَيْرَهُ فَحَمَلَهُ فَأَدْخَلَهُ حَنِثَ؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ فِعْلٌ لَا حُقُوقَ لَهُ فَكَانَ فِعْلُ الْمَأْمُورِ مُضَافًا إلَيْهِ كَالذَّبْحِ وَالضَّرْبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَوْضِعِهِ، وَإِنْ احْتَمَلَهُ غَيْرُهُ فَأَدْخَلَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ هَذَا يُسَمَّى إدْخَالًا لَا دُخُولًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الدُّخُولَ انْتِقَالٌ وَالْإِدْخَالُ نَقْلٌ، وَلَمْ يُوجَدْ مَا يُوجِبُ الْإِضَافَةَ إلَيْهِ وَهُوَ الْأَمْرُ، وَسَوَاءٌ كَانَ رَاضِيًا بِنَقْلِهِ أَوْ سَاخِطًا لِأَنَّ الرِّضَا لَا يَجْعَلُ الْفِعْلَ مُضَافًا إلَيْهِ فَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الشَّرْطُ وَهُوَ الدُّخُولُ، وَسَوَاءٌ كَانَ قَادِرًا عَلَى الِامْتِنَاعِ أَوْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَيْهِ عِنْدَ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ إنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الِامْتِنَاعِ فَلَمْ يَمْتَنِعْ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْتَنِعْ مَعَ الْقُدْرَةِ كَانَ الدُّخُولُ مُضَافًا إلَيْهِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الدُّخُولُ حَقِيقَةً وَامْتِنَاعُهُ مَعَ الْقُدْرَةِ إنْ جَازَ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى رِضَاهُ بِالدُّخُولِ لَكِنَّ الرِّضَا يَكُونُ بِالْأَمْرِ، وَبِدُونِ الْأَمْرِ لَا يَكْفِي لِإِضَافَةِ الْفِعْلِ إلَيْهِ فَانْعَدَمَ الدُّخُولُ حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا، وَسَوَاءٌ دَخَلَهَا مِنْ بَابِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ الْحِنْثِ مُطْلَقَ الدُّخُولِ وَقَدْ وُجِدَ، وَلَوْ نَزَلَ عَلَى سَطْحِهَا حَنِثَ؛ لِأَنَّ سَطْحَ الدَّارِ مِنْ الدَّارِ إذْ الدَّارُ اسْمٌ لِمَا أَحَاطَ بِهِ الدَّائِرَةُ، وَالدَّائِرَةُ أَحَاطَتْ بِالسَّطْحِ.
وَكَذَا لَوْ أَقَامَ عَلَى حَائِطٍ مِنْ حِيطَانِهَا لِأَنَّ الْحَائِطَ مِمَّا تَدُورُ عَلَيْهِ الدَّائِرَةُ فَكَانَ كَسَطْحِهَا، وَلَوْ قَامَ عَلَى ظُلَّةٍ لَهَا شَارِعَةٍ أَوْ كَنِيفِ شَارِعٍ فَإِنْ كَانَ مِفْتَحُ ذَلِكَ إلَى الدَّارِ يَحْنَثُ وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مِفْتَحُهُ إلَى الدَّارِ يَكُونُ مَنْسُوبًا إلَى الدَّارِ فَيَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الدَّارِ وَإِلَّا فَلَا وَإِنْ قَامَ عَلَى أُسْكُفَّةِ الْبَابِ فَإِنْ كَانَ الْبَابُ إذَا أُغْلِقَ كَانَتْ الْأُسْكُفَّةُ خَارِجَةً عَنْ الْبَابِ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ خَارِجٌ وَإِنْ كَانَ أُغْلِقَ الْبَابُ كَانَتْ الْأُسْكُفَّةُ دَاخِلَةَ الْبَابِ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ لِأَنَّ الْبَابَ يُغْلَقُ عَلَى مَا فِي دَاخِلِ الدَّارِ لَا عَلَى مَا فِي الْخَارِجِ، وَإِنْ أَدْخَلَ الْحَالِفُ إحْدَى رِجْلَيْهِ وَلَمْ يُدْخِلْ الْأُخْرَى لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْتَقِلْ كُلُّهُ بَلْ بَعْضُهُ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بُرَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «كُنْت مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ لِي إنِّي لَأَعْلَمُ آيَةً لَمْ تَنْزِلْ عَلَى نَبِيٍّ بَعْدَ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُد عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَّا عَلَيَّ فَقُلْت وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: لَا أَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ حَتَّى أُعَلِّمَكَهَا فَلَمَّا أَخْرَجَ إحْدَى رِجْلَيْهِ فَقُلْت فِي نَفْسِي لَعَلَّهُ قَدْ نَسِيَ فَقَالَ لِي: بِمَ تُفْتَتَحُ الْقِرَاءَةُ؟ فَقُلْت: بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ هِيَ» فَلَوْ كَانَ هَذَا الْقَدْرُ خُرُوجًا لَكَانَ تَأْخِيرُ التَّعْلِيمِ إلَيْهِ خُلْفًا فِي الْوَعْدِ وَلَا يُتَوَهَّمُ ذَلِكَ بِالْأَنْبِيَاءِ- عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ آيَةٌ مِنْ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّاهَا آيَةً، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ مَوْضُوعُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي دَارٍ دَاخِلُهَا وَخَارِجُهَا سَطْحٌ وَاحِدٌ فَإِنْ كَانَتْ الدَّارُ مُنْهَبِطَةً فَأَدْخَلَ إلَيْهَا إحْدَى رِجْلَيْهِ حَنِثَ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَهُ حَصَلَ فِيهَا وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ، فَإِنْ أَدْخَلَ رَأْسَهُ وَلَمْ يُدْخِلْ قَدَمَيْهِ أَوْ تَنَاوَلَ مِنْهَا لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِدُخُولٍ.
أَلَا تَرَى أَنَّ السَّارِقَ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَا يُقْطَعُ؟ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارًا فَدَخَلَ خَرَابًا قَدْ كَانَ دَارًا وَذَهَبَ بِنَاؤُهَا لَا يَحْنَثُ، وَلَوْ كَانَتْ حِيطَانُهَا قَائِمَةً فَدَخَلَ يَحْنَثُ، وَلَوْ عَيَّنَ فَقَالَ أَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَذَهَبَ بِنَاؤُهَا لَا يَحْنَثُ وَلَوْ كَانَتْ حِيطَانُهَا قَائِمَةً وَدَخَلَ يَحْنَثُ وَلَوْ عَيَّنَ فَقَالَ: لَا أَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَذَهَبَ بِنَاؤُهَا بَعْدَ يَمِينِهِ ثُمَّ دَخَلَهَا يَحْنَثُ فِي قَوْلِهِمْ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ دَارًا وَإِنْ ذُكِرَ مُطْلَقًا لَكِنَّ الْمُطْلَقَ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ وَهِيَ الدَّارُ الْمَبْنِيَّةُ فَيُرَاعَى فِيهِ الِاسْمُ وَالصِّفَةُ وَهِيَ الْبِنَاءُ؛ لِأَنَّهُ جَارٍ مَجْرَى الصِّفَةِ فَمَا لَمْ يُوجَدْ لَا يَحْنَثُ، وَقَوْلُهُ هَذِهِ الدَّارُ إشَارَةٌ إلَى الْمُعَيَّنِ الْحَاضِرِ فَيُرَاعَى فِيهِ ذَاتُ الْمُعَيَّنِ لَا صِفَتُهُ لِأَنَّ الْوَصْفَ لِلتَّعْرِيفِ وَالْإِشَارَةُ كَافِيَةٌ لِلتَّعْرِيفِ وَذَاتُ الدَّارِ قَائِمَةٌ بَعْدَ الِانْهِدَامِ؛ لِأَنَّ الدَّارَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِلْعَرْصَةِ، وَالْعَرْصَةُ قَائِمَةٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الدَّارَ اسْمٌ لِلْعَرْصَةِ بِدُونِ الْبِنَاءِ قَوْلُ النَّابِغَةِ يَا دَارَ مَيَّةَ بِالْعَلْيَاءِ فَالسَّنَدِ أَقْوَتْ فَطَالَ عَلَيْهَا سَالِفُ الْأَبَدِ إلَّا الْأَوَارِيَّ لَأْيًا مَا أُبَيِّنُهَا وَالنُّؤْيَ كَالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَةِ الْجَلَدِ سَمَّاهَا دَارًا بَعْدَمَا خَلَتْ مِنْ أَهْلِهَا وَخَرِبَتْ وَلَمْ يَبْقَ فِيهَا إلَّا الْأَوَارِيَ وَالنُّؤْيَ وَلَوْ أُعِيدَ الْبِنَاءُ فَدَخَلَهَا يَحْنَثُ، أَمَّا فِي الْمُعَيَّنِ فَلَا شَكَّ فِيهِ لِأَنَّهُ لَوْ دَخَلَهَا بِدُونِ الْبِنَاءِ يَحْنَثُ فَمَعَ الْبِنَاءِ أَوْلَى.
وَأَمَّا فِي الْمُنَكَّرِ فَلِوُجُودِ الِاسْمِ وَالصِّفَةِ وَهِيَ الْبِنَاءُ وَإِنْ بُنِيَتْ مَسْجِدًا أَوْ حَمَّامًا أَوْ بُسْتَانًا فَدَخَلَهُ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ اسْمَ الدَّارِ قَدْ بَطَلَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُسَمَّى دَارًا فَبَطَلَتْ الْيَمِينُ، وَلَوْ أَعَادَهَا دَارًا فَدَخَلَهَا لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهَا غَيْرُ الدَّارِ الْأُولَى وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ إذَا قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَدْخُلُ هَذَا الْمَسْجِدَ فَهُدِمَ فَصَارَ صَحْرَاءَ ثُمَّ دَخَلَهُ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ قَالَ هُوَ مَسْجِدٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَبْنِيًّا، وَلِأَنَّ الْمَسْجِدَ عِبَارَةٌ عَنْ مَوْضِعِ السُّجُودِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْخَرَابِ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ إنَّ الْمَسْجِدَ إذَا خَرِبَ وَاسْتَغْنَى النَّاسُ عَنْهُ أَنَّهُ يَبْقَى مَسْجِدًا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذَا الْبَيْتَ أَوْ بَيْتًا فَدَخَلَهُ بَعْدَ مَا انْهَدَمَ وَلَا بِنَاءَ فِيهِ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الْبَيْتَ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ الْبَيْتُوتَةِ سُمِّيَ بَيْتًا لِأَنَّهُ يُبَاتُ فِيهِ وَلَا يُبَاتُ إلَّا فِي الْبِنَاءِ وَلِهَذَا تُسَمِّي الْعَرَبُ الْأَخْبِيَةَ بُيُوتًا فَصَارَ الْبِنَاءُ فِيهِ فِي حَقِّ اسْتِحْقَاقِ الِاسْمِ مُلْتَحِقًا بِذَاتِ الْمُسَمَّى كَاسْمِ الطَّعَامِ لِلْمَائِدَةِ وَالشَّرَابِ لِلْكَأْسِ وَالْعَرُوسِ لِلْأَرِيكَةِ فَيَزُولُ الِاسْمُ بِزَوَالِهِ، وَلَوْ بَنَى بَيْتًا آخَرَ فَدَخَلَهُ لَا يَحْنَثُ أَيْضًا فِي الْمُعَيَّنِ لِأَنَّ الْمُعَادَ عَيْنٌ أُخْرَى غَيْرُ الْأَوَّلِ فَلَا يَحْنَثُ بِالدُّخُولِ فِيهِ، وَفِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ حَنِثَ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ دُخُولُ الْبَيْتِ وَلَوْ انْهَدَمَ السَّقْفُ وَحِيطَانُهُ قَائِمَةٌ فَدَخَلَهُ يَحْنَثُ فِي الْمُعَيَّنِ وَلَا يَحْنَثُ فِي الْمُنَكَّرِ لِأَنَّ السَّقْفَ بِمَنْزِلَةِ الصِّفَةِ فِيهِ وَهِيَ فِي الْحَاضِرِ لَغْوٌ وَفِي الْغَائِبِ مُعْتَبَرَةٌ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْفُسْطَاطِ وَهُوَ مَضْرُوبٌ فِي مَوْضِعٍ فَقُلِعَ وَضُرِبَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَدَخَلَ فِيهِ يَحْنَثُ، وَكَذَلِكَ الْقُبَّةُ مِنْ الْعِيدَانِ وَنَحْوِهِ، وَكَذَلِكَ دَرَجٌ مِنْ عِيدَانٍ بِدَارٍ أَوْ مِنْبَرٍ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا يَزُولُ بِنَقْلِهَا مِنْ مَكَان إلَى مَكَان.
وَمِنْ هَذَا الْجِنْسِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى إذَا حَلَفَ لَا يَجْلِسُ إلَى هَذِهِ الْأُسْطُوَانَةِ أَوْ إلَى هَذَا الْحَائِطِ فَهُدِمَا ثُمَّ بُنِيَا بِنَقْضِهِمَا لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْحَائِطَ إذَا هُدِمَ زَالَ الِاسْمُ عَنْهُ وَكَذَا الْأُسْطُوَانَةُ فَبَطَلَتْ الْيَمِينُ وَكَذَا إذَا حَلَفَ لَا يَكْتُبُ بِهَذَا الْقَلَمِ فَكَسَرَهُ ثُمَّ بَرَاهُ فَكَتَبَ بِهِ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْمَبْرِيِّ لَا يُسَمَّى قَلَمًا وَإِنَّمَا يُسَمَّى أُنْبُوبًا فَإِذَا كُسِرَ فَقَدْ زَالَ الِاسْمُ فَبَطَلَتْ الْيَمِينُ وَكَذَلِكَ إذَا حَلَفَ عَلَى مِقَصٍّ فَكَسَرَهُ ثُمَّ جَعَلَهُ مِقَصًّا غَيْرَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ قَدْ زَالَ بِالْكَسْرِ وَكَذَلِكَ كُلُّ سِكِّينٍ وَسَيْفٍ وَقِدْرٍ كُسِرَ ثُمَّ صُنِعَ مِثْلُهُ، وَلَوْ نَزَعَ مِسْمَارَ الْمِقَصِّ وَلَمْ يَكْسِرْهُ ثُمَّ أَعَادَ فِيهِ مِسْمَارًا آخَرَ حَنِثَ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ لَمْ يَزُلْ بِزَوَالِ الْمِسْمَارِ، وَكَذَلِكَ إذَا نَزَعَ نِصَابَ السِّكِّينِ وَجَعَلَ عَلَيْهِ نِصَابًا آخَرَ؛ لِأَنَّ السِّكِّينَ اسْمٌ لِلْحَدِيدِ وَلَوْ حَلَفَ عَلَى قَمِيصٍ لَا يَلْبَسُهُ أَوْ قَبَاءً مَحْشُوًّا أَوْ مُبَطَّنًا أَوْ جُبَّةً مُبَطَّنَةً أَوْ مَحْشُوَّةً أَوْ قَلَنْسُوَةً أَوْ خُفَّيْنِ فَنَقَضَ ذَلِكَ كُلَّهُ ثُمَّ أَعَادَهُ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ بَقِيَ بَعْدَ النَّقْضِ، يُقَالُ قَمِيصٌ مَنْقُوضٌ وَجُبَّةٌ مَنْقُوضَةٌ وَالْيَمِينُ الْمُنْعَقِدَةُ عَلَى الْعَيْنِ لَا تَبْطُلُ بِتَغَيُّرِ الصِّفَةِ مَعَ بَقَاءِ اسْمِ الْعَيْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ هَذَا السَّرْجَ فَفَتَقَهُ ثُمَّ أَعَادَهُ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ هَذِهِ السَّفِينَةَ فَنَقَضَهَا ثُمَّ اسْتَأْنَفَ بِذَلِكَ الْخَشَبِ فَرَكِبَهَا لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهَا لَا تُسَمَّى سَفِينَةً بَعْدَ النَّقْضِ، وَزَوَالُ الِاسْمِ يُبْطِلُ الْيَمِينَ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَنَامُ عَلَى هَذَا الْفِرَاشِ فَفَتَقَهُ وَغَسَلَهُ ثُمَّ حَشَاهُ بِحَشْوٍ وَخَاطَهُ وَنَامَ عَلَيْهِ حَنِثَ؛ لِأَنَّ فَتْقَ الْفِرَاشِ لَا يُزِيلُ الِاسْمَ عَنْهُ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ شُقَّةَ خَزٍّ بِعَيْنِهَا فَنَقَضَهَا وَغُزِلَتْ وَجُعِلَتْ شُقَّةً أُخْرَى لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهَا إذَا نُقِضَتْ صَارَتْ خُيُوطًا وَزَالَ الِاسْمُ عَنْ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، وَلَوْ حَلَفَ عَلَى قَمِيصٍ لَا يَلْبَسُهُ فَقَطَعَهُ جُبَّةً مَحْشُوَّةً فَلَبِسَهُ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ قَدْ زَالَ فَزَالَتْ الْيَمِينُ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَقْرَأُ فِي هَذَا الْمُصْحَفِ فَخَلَعَهُ ثُمَّ لَفَّ وَرَقَهُ وَغَرَزَ دَفَّتَيْهِ ثُمَّ قَرَأَ فِيهِ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْمُصْحَفِ بَاقٍ وَإِنْ فُرِّقَ، وَلَوْ حَلَفَ عَلَى نَعْلٍ لَا يَلْبَسُهَا فَقَطَعَ شِرَاكَهَا وَشَرَّكَهَا بِغَيْرِهِ ثُمَّ لَبِسَهَا حَنِثَ؛ لِأَنَّ اسْمَ النَّعْلِ يَتَنَاوَلُهَا بَعْدَ قَطْعِ الشِّرَاكِ، وَلَوْ حَلَفَتْ امْرَأَةٌ لَا تَلْبَسُ هَذِهِ الْمِلْحَفَةَ فَخِيطَ جَانِبَاهَا فَجُعِلَتْ دِرْعًا وَجُعِلَ لَهَا جَيْبًا ثُمَّ لَبِسَتْهَا لَمْ تَحْنَثْ لِأَنَّهَا دِرْعٌ وَلَيْسَتْ بِمِلْحَفَةٍ فَإِنْ أُعِيدَتْ مِلْحَفَةً فَلَبِسَتْهَا حَنِثَتْ لِأَنَّهَا عَادَتْ مِلْحَفَةً بِغَيْرِ تَأْلِيفٍ وَلَا زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ فَهِيَ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذَا الْمَسْجِدَ فَزِيدَ فِيهِ طَائِفَةٌ فَدَخَلَهَا لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ وَقَعَتْ عَلَى بُقْعَةٍ مُعَيَّنَةٍ فَلَا يَحْنَثُ بِغَيْرِهَا، وَلَوْ قَالَ مَسْجِدَ بَنِي فُلَانٍ ثُمَّ زِيدَ فِيهِ فَدَخَلَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ الَّذِي زِيدَ فِيهِ حَنِثَ، وَكَذَلِكَ الدَّارُ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى الْإِضَافَةِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الزِّيَادَةِ.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ بَيْتًا فَدَخَلَ مَسْجِدًا أَوْ بِيعَةً أَوْ كَنِيسَةً أَوْ بَيْتَ نَارٍ أَوْ دَخَلَ الْكَعْبَةَ أَوْ حَمَّامًا أَوْ دِهْلِيزًا أَوْ ظُلَّةَ بَابِ دَارٍ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا تُسَمَّى بَيْتًا عَلَى الْإِطْلَاقِ عُرْفًا وَعَادَةً وَإِنْ سَمَّى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْكَعْبَةَ بَيْتًا فِي كِتَابِهِ فِي قَوْله تَعَالَى- {إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةِ} وَسَمَّى الْمَسَاجِدَ بُيُوتًا حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ}؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْأَيْمَانِ عَلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ لَا عَلَى نَفْسِ إطْلَاقِ الِاسْمِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا فَأَكَلَ سَمَكًا لَا يَحْنَثُ وَإِنْ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى لَحْمًا فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} لَمَّا لَمْ يُسَمَّ لَحْمًا فِي عُرْفِ النَّاسِ وَعَادَاتِهِمْ كَذَا هَذَا، وَقِيلَ الْجَوَابُ الْمَذْكُورُ فِي مِثْلِ الدِّهْلِيزِ فِي دِهْلِيزٍ يَكُونَ خَارِجَ بَابِ الدَّارِ لِأَنَّهُ لَا يُبَاتُ فِيهِ فَإِنْ كَانَ دَاخِلَ الْبَيْتِ وَتُمْكِنُ فِيهِ الْبَيْتُوتَةُ يَحْنَثْ، وَالصَّحِيحُ مَا أُطْلِقَ فِي الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ الدِّهْلِيزَ لَا يُبَاتُ فِيهِ عَادَةً سَوَاءٌ كَانَ خَارِجَ الْبَابِ أَوْ دَاخِلَهُ، وَلَوْ دَخَلَ صُفَّةً يَحْنَثُ، كَذَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ،.
وَقِيلَ إنَّمَا وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى عَادَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ؛ لِأَنَّ صِفَافَهُمْ تُغْلَقُ عَلَيْهَا الْأَبْوَابُ فَكَانَتْ بُيُوتًا لِوُجُودِ مَعْنَى الْبَيْتِ وَهُوَ مَا يُبَاتُ فِيهِ عَادَةً وَلِذَا سُمِّيَ ذَلِكَ بَيْتًا عُرْفًا وَعَادَةً.
فَأَمَّا عَلَى عَادَةِ أَهْلِ بِلَادِنَا فَلَا يَحْنَثُ لِانْعِدَامِ مَعْنَى الْبَيْتِ وَانْعِدَامِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ وَالتَّسْمِيَةِ أَيْضًا وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ مِنْ بَابِ هَذِهِ الدَّارِ فَدَخَلَهَا مِنْ غَيْرِ الْبَابِ لَمْ يَحْنَثْ لِعَدَمِ الشَّرْطِ وَهُوَ الدُّخُولُ مِنْ الْبَابِ فَإِنْ نَقَبَ لِلدَّارِ بَابًا آخَرُ فَدَخَلَ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى الدُّخُولِ مِنْ بَابٍ مَنْسُوبٍ إلَى الدَّارِ وَقَدْ وُجِدَ وَالْبَابُ الْحَادِثُ كَذَلِكَ فَيَحْنَثُ، وَإِنْ عَنَى بِهِ الْبَابَ الْأَوَّلَ يَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ لَفْظَهُ يَحْتَمِلُهُ وَلَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ حَيْثُ أَرَادَ بِالْمُطْلَقِ الْمُقَيَّدَ، وَإِنْ عَيَّنَ الْبَابَ فَقَالَ لَا أَدْخُلُ مِنْ هَذَا الْبَابِ فَدَخَلَ مِنْ بَابٍ آخَرَ لَا يَحْنَثُ وَهَذَا مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ فَدَخَلَ دَارًا يَسْكُنُهَا فُلَانً بِمِلْكٍ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ إعَارَةٍ فَهُوَ سَوَاءٌ يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ، ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو يُوسُفَ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ وَضْعَ الْمَسْأَلَةِ فِي الْمُسْتَأْجِرِ وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَحْنَثُ.
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ قَوْلَهُ دَارَ فُلَانٍ إضَافَةُ مِلْكٍ إذْ الْمِلْكُ فِي الدَّارِ لِلْآجِرِ وَإِنَّمَا الْمُسْتَأْجِرُ مَلَكَ الْمَنْفَعَةَ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ الْيَمِينُ.
(وَلَنَا) أَنَّ الدَّارَ الْمَسْكُونَةَ بِالْإِجَارَةِ وَالْإِعَارَةِ تُضَافُ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُسْتَعِيرِ عُرْفًا وَعَادَةً وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ «مَرَّ بِحَائِطٍ فَأَعْجَبَهُ فَقَالَ لِمَنْ هَذَا؟ فَقَالَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ: لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَأْجَرْتُهُ» أَضَافَهُ إلَى نَفْسِهِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ ثَبَتَتْ الْإِضَافَةُ عُرْفًا وَشَرْعًا،.
فَأَمَّا إذَا حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارًا لِفُلَانٍ فَدَخَلَ دَارًا لَهُ قَدْ آجَرَهَا لِغَيْرِهِ قَالَ مُحَمَّدٌ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ حَلَفَ عَلَى دَارٍ يَمْلِكُهَا فُلَانٌ وَالْمِلْكُ لَهُ سَوَاءٌ كَانَ يَسْكُنُهَا أَوْ لَا يَسْكُنُهَا.
وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهَا تُضَافُ إلَى السَّاكِنِ بِالسُّكْنَى فَسَقَطَ إضَافَةُ الْمِلْكِ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ أَنْ تُضَافَ دَارٌ وَاحِدَةٌ إلَى الْمَالِكِ بِجِهَةِ الْمِلْكِ وَإِلَى السَّاكِنِ بِجِهَةِ السُّكْنَى؛ لِأَنَّ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِهَةِ تَذْهَبُ الِاسْتِحَالَةُ، فَإِنْ قَالَ لَا أَدْخُلُ حَانُوتًا لِفُلَانٍ فَدَخَلَ حَانُوتًا لَهُ قَدْ آجَرَهُ فَإِنْ كَانَ فُلَانٌ مِمَّنْ لَهُ حَانُوتٌ يَسْكُنُهُ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِدُخُولِ هَذَا الْحَانُوتِ؛ لِأَنَّهُ يُضَافُ إلَى سَاكِنِهِ وَلَا يُضَافُ إلَى مَالِكِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ لَا يُعْرَفُ بِسُكْنَى حَانُوتٍ يَحْنَثُ لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ إضَافَةَ الْمِلْكِ لَا إضَافَةَ السُّكْنَى كَمَا يُقَال حَانُوتُ الْأَمِيرِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْكُنُهَا الْأَمِيرُ، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ فَدَخَلَ دَارًا بَيْنَ فُلَانٍ وَبَيْنَ آخَرَ فَإِنْ كَانَ فُلَانٌ فِيهَا سَاكِنًا حَنِثَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَاكِنًا لَا يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ سَاكِنًا فِيهَا كَانَتْ مُضَافَةً إلَيْهِ بِالسُّكْنَى وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ شَيْئًا مِنْهَا فَإِذَا مَلَكَ نِصْفَهَا أَوْلَى وَإِذَا لَمْ يَسْكُنْ فِيهَا كَانَتْ الْإِضَافَةُ إضَافَةَ الْمِلْكِ وَالْكُلُّ غَيْرُ مُضَافٍ إلَيْهِ، وَفَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا حَلَفَ لَا يَزْرَعُ أَرْضًا لِفُلَانٍ فَزَرَعَ أَرْضًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ أَنَّهُ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ الْأَرْضِ يُسَمَّى أَرْضًا وَبَعْضَ الدَّارِ لَا يُسَمَّى دَارًا، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ بَيْتَ فُلَانٍ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَدَخَلَ دَارِهِ وَفُلَانٌ فِيهَا سَاكِنٌ لَا يَحْنَثُ حَتَّى يَدْخُلَ الْبَيْتَ لِأَنَّ الْبَيْتَ اسْمٌ لِمَوْضِعٍ يُبَاتُ فِيهِ عَادَةً وَلَا يُبَاتُ فِي صَحْنِ الدَّارِ عَادَةً فَإِنْ نَوَاهُ يُصَدَّقُ؛ لِأَنَّهُ تَشَدَّدَ عَلَى نَفْسِهِ.
وَقَالَ ابْنُ رُسْتُمَ: قَالَ مُحَمَّدٌ فِي رَجُلٍ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ مِثْلَ دَارِ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ وَغَيْرِهَا مِنْ الدُّورِ الْمَشْهُورَةِ بِأَرْبَابِهَا فَدَخَلَ الرَّجُلُ وَقَدْ كَانَ بَاعَهَا عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ أَوْ غَيْرُهُ مِمَّنْ تُنْسَبُ قَبْلَ الْيَمِينِ إلَيْهِ ثُمَّ دَخَلَهَا الْحَالِفُ بَعْدَ ذَلِكَ حَنِثَ لِأَنَّ الدُّورَ الْمَشْهُورَةَ إنَّمَا تُضَافُ إلَى أَرْبَابِهَا عَلَى طَرِيقِ النِّسْبَةِ لَا عَلَى طَرِيقِ الْمِلْكِ وَزَوَالُ الْمِلْكَ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الْيَمِينِ، وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْيَمِينُ عَلَى دَارٍ مِنْ هَذِهِ الدُّورِ الَّتِي لَيْسَتْ لَهَا نِسْبَةٌ تُعْرَفُ بِهَا لَمْ يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهَذِهِ الْإِضَافَةِ الْمِلْكُ لَا النِّسْبَةُ فَإِذَا زَالَ الْمِلْكُ زَالَتْ الْإِضَافَةُ.
وَقَالَ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الْحُجْرَةَ فَكُسِرَتْ الْحُجْرَةُ فَدَخَلَهَا بَعْدَمَا كُسِرَتْ لَا يَحْنَثُ وَلَيْسَتْ الْحُجْرَةُ كَالدَّارِ لِأَنَّ الْحُجْرَةَ اسْمٌ لِمَا حُجِرَ بِالْبِنَاءِ فَكَانَ كَالْبَيْتِ فَإِذَا انْهَدَمَتْ فَقَدْ زَالَ الِاسْمُ.
وَقَالَ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ فَصَعَدَ السَّطْحَ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ سَطْحَ الدَّارِ مِنْهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ نَوَى صَحْنَ الدَّارِ فَلَا يَحْنَثُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ يَذْكُرُونَ الدَّارَ وَيُرِيدُونَ بِهِ الصَّحْنَ دُونَ غَيْرِهِ فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذَا الْمَسْجِدَ فَصَعَدَ فَوْقَهُ حَنِثَ؛ لِأَنَّ سَطْحَ الْمَسْجِدِ مِنْ الْمَسْجِدِ أَلَا تَرَى لَوْ انْتَقَلَ الْمُعْتَكِفُ إلَيْهِ لَا يَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ؟ فَإِنْ كَانَ فَوْقَ الْمَسْجِدِ مَسْكَنٌ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَسْجِدٍ وَلَوْ انْتَقَلَ الْمُعْتَكِفُ إلَيْهِ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ إلَّا مُجْتَازًا قَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ دَخَلَ وَهُوَ لَا يُرِيدُ الْجُلُوسَ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى كُلِّ دُخُولٍ وَاسْتَثْنَى دُخُولًا بِصِفَةٍ وَهُوَ مَا يُقْصَدُ بِهِ الِاجْتِيَازُ وَقَدْ دَخَلَ عَلَى الصِّفَةِ الْمُسْتَثْنَاةِ فَإِنْ دَخَلَ يَعُودُ مَرِيضًا وَمِنْ رَأْيِهِ الْجُلُوسُ عِنْدَهُ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ لَا عَلَى الصِّفَةِ الْمُسْتَثْنَاةِ، فَإِنْ دَخَلَ لَا يُرِيدُ الْجُلُوسَ ثُمَّ بَدَا لَهُ بَعْدَ مَا دَخَلَ فَجَلَسَ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْنَثْ حِينَ دُخُولِهِ لِوُجُودِهِ عَلَى الْوَصْفِ الْمُسْتَثْنَى وَلَمْ يُوجَدْ الدُّخُولُ بَعْدَ ذَلِكَ إذْ الْمُكْثُ لَيْسَ بِدُخُولٍ فَلَا يَحْنَثُ وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ إذَا حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ إلَّا عَابِرَ سَبِيلٍ فَدَخَلَهَا لِيَقْعُدَ فِيهَا أَوْ لِيَعُودَ مَرِيضًا فِيهَا أَوْ لِيَطْعَمَ فِيهَا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ حِينَ حَلَفَ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ وَلَكِنْ إنْ دَخَلَهَا مُجْتَازًا ثُمَّ بَدَا لَهُ فَقَعَدَ فِيهَا لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ عَابِرَ السَّبِيلِ هُوَ الْمُجْتَازُ فَإِذَا دَخَلَهَا لِغَيْرِ اجْتِيَازٍ حَنِثَ قَالَ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ لَا يَدْخُلُهَا يُرِيدُ النُّزُولَ فِيهَا فَإِنْ نَوَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَسَعُهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُقَالُ دَخَلْت عَابِرَ سَبِيلٍ بِمَعْنَى أَنِّي لَمْ أَدُمْ عَلَى الدُّخُولِ وَلَمْ أَسْتَتِرْ فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَطَأُ هَذِهِ الدَّارَ بِقَدَمِهِ فَدَخَلَهَا رَاكِبًا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِهِ الدُّخُولَ فِي الْعُرْفِ لَا مُبَاشَرَةَ قَدَمِهِ الْأَرْضَ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي رِجْلِهِ حِذَاءُ نَعْلٍ يَحْنَثُ؟ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الدُّخُولُ، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَضَعُ قَدَمَهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ فَدَخَلَهَا رَاكِبًا حَنِثَ لِأَنَّ وَضْعَ الْقَدَمِ فِي عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ صَارَ عِبَارَةً عَنْ الدُّخُولِ فَإِنْ كَانَ نَوَى أَنْ لَا يَضَعَ قَدَمَهُ مَاشِيًا فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ فَيُصَدَّقُ، وَكَذَلِكَ إذَا دَخَلَهَا مَاشِيًا وَعَلَيْهِ حِذَاءٌ أَوْ لَا حِذَاءَ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا.
وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَدَخَلَ حَانُوتًا مُشَرَّعًا مِنْ هَذِهِ الدَّارِ إلَى الطَّرِيقِ وَلَيْسَ لَهُ بَابٌ فِي الدَّارِ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ مَا أَحَاطَتْ بِهِ الدَّائِرَةُ.
قَالَ هِشَامٌ: وَسَأَلْت أَبَا يُوسُفَ إنْ دَخَلَ بُسْتَانًا فِي تِلْكَ الدَّارِ قَالَ لَا يَحْنَثْ وَهَذَا مَحْمُولُ عَلَى بُسْتَانٍ مُتَّصِلٍ بِالدَّارِ فَإِنْ كَانَ فِي وَسَطِ الدَّارِ يَحْنَثْ لِإِحَاطَةِ الدَّائِرَةِ بِهِ، هَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ.
وَقَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ فَحَفَرَ سَرَبًا فَبَلَغَ دَارِهِ وَحَفَرَ تَحْتَ دَارِ فُلَانٍ حَتَّى جَاوَزَهَا فَدَخَلَ الْحَالِفُ ذَلِكَ السَّرَبَ حَتَّى مَضَى فِيهِ تَحْتَ دَارِ فُلَانٍ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ هَذِهِ الْقَنَاةِ مَكَانٌ مَكْشُوفٌ إلَى الدَّارِ يَسْتَقِي مِنْهُ أَهْلُ الدَّارِ فَدَخَلَ الْحَالِفُ الْقَنَاةَ فَبَلَغَ ذَلِكَ الْمَكْشُوفَ فَيَحْنَثُ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ كَانَ الْمَكْشُوفُ شَيْئًا قَلِيلًا لَا يَنْتَفِعُ بِهِ أَهْلُ الدَّارِ وَإِنَّمَا هُوَ لِلضَّوْءِ فَمَرَّ الْحَالِفُ بِالْقَنَاةِ حَتَّى بَلَغَ الْمَوْضِعَ فَلَيْسَ بِحَانِثٍ لِأَنَّ الْقَنَاةَ تَحْتَ الدَّارِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَنْفَذٌ لَا تُعَدُّ مِنْ الدَّارِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ دُخُولِ دَارِهِ إمَّا كَرَامَةٌ وَإِمَّا هَتْكُ حُرْمَةٍ وَذَاكَ لَا يُوجَدُ فِيمَا لَا مَنْفَذَ لَهُ، وَإِذَا كَانَ لَهَا مَنْفَذٌ يُسْتَقَى مِنْهُ الْمَاءُ فَإِنَّهُ يُعَدُّ مِنْ مَرَافِقِ الدَّارِ بِمَنْزِلَتِهِ بِئْرُ الْمَاءِ فَإِذَا بَلَغَ إلَيْهِ كَانَ كَمَنْ دَخَلَ فِي بِئْرِ دَارِهِ، وَإِذَا كَانَ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إلَّا لِلضَّوْءِ لَا يَكُونُ مِنْ مَرَافِقِ الدَّارِ فَلَا يَصِيرُ بِدُخُولِهِ دَاخِلًا فِي الدَّارِ فَلَا يَحْنَثُ، وَلَوْ دَخَلَ فُلَانٌ سَرَبًا تَحْتَ دَارِهِ وَجَعَلَهُ بُيُوتًا وَجَعَلَ لَهُ أَبْوَابًا إلَى الطَّرِيقِ فَدَخَلَهَا رَجُلٌ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ فَهُوَ حَانِثٌ؛ لِأَنَّ السَّرَبَ تَحْتَ الدَّارِ مِنْ بُيُوتِ الدَّارِ، وَلَوْ عَمَدَ فُلَانٌ إلَى بَيْتٍ مِنْ دَارِهِ أَوْ بَيْتَيْنِ فَسَدَّ أَبْوَابَهُمَا مِنْ قِبَلِ دَارِهِ وَجَعَلَ أَبْوَابَهَا إلَى دَارِ الْحَالِفِ فَدَخَلَ الْحَالِفُ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ أَبْوَابَهُمَا إلَى دَارِ الْحَالِفِ فَقَدْ صَارَتْ مَنْسُوبَةً إلَى الدَّارِ الْأُخْرَى.
وَقَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ فِي السَّرَبِ: إذَا كَانَ بَابُهُ إلَى الدَّارِ وَمُحْتَفَرُهُ فِي دَارٍ أُخْرَى إنَّهُ مِنْ الدَّارِ الَّتِي مَدْخَلُهُ إلَيْهَا وَبَابُهُ إلَيْهَا لِأَنَّهُ بَيْتٌ مِنْ بُيُوتِهَا.
وَقَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي رَجُلٍ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ بَغْدَادَ فَانْحَدَرَ مِنْ الْمُوصِلِ فِي سَفِينَةٍ فَمَرَّ بِدِجْلَةَ لَا يَحْنَثُ، فَإِنْ خَرَجَ فَمَضَى فَمَشَى عَلَى الْجِسْرِ حَنِثَ، وَإِنْ قَدِمَ إلَى الشَّطِّ وَلَمْ يَخْرُجْ لَمْ يَحْنَثْ، وَلَمْ يَكُنْ مُقِيمًا إنْ كَانَ أَهْلُهُ بِبَغْدَادَ، وَإِنْ خَرَجَ إلَى الشَّطِّ حَنِثَ.
وَقَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ إذَا انْحَدَرَ فِي سَفِينَةٍ مِنْ الْمُوصِلِ إلَى الْبَصْرَةِ فَمَرَّ فِي شَطِّ الدِّجْلَةِ فَهُوَ حَانِثٌ فَصَارَتْ الْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةً بَيْنَهُمَا.
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الدِّجْلَةَ مِنْ الْبَلَدِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ عُقِدَ عَلَيْهَا جِسْرٌ كَانَتْ مِنْ الْبَلَدِ فَكَذَا إذَا حَصَلَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فِي سَفِينَةٍ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَوْضِعَ الدِّجْلَةِ لَيْسَ مَوْضِعَ قَرَارٍ فَلَا يَكُونُ مَقْصُودًا بِعَقْدِ الْيَمِينِ عَلَى الدُّخُولِ فَلَا تَنْصَرِفُ الْيَمِينُ إلَيْهِ.
قَالَ بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ وَلَمْ تُعْطِنِي ثَوْبَ كَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَدَخَلَتْ الدَّارَ ثُمَّ أَعْطَتْهُ الثَّوْبَ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتْ أَعْطَتْهُ الثَّوْبَ قَبْلَ أَنْ تَدْخُلَ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ لِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ دُخُولَهَا الدَّارَ لَا عَلَى صِفَةِ الْإِعْطَاءِ، وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ الزَّوْجُ مُعْطًى حَالَ الدُّخُولِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْوَاوَ لِلْحَالِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ أَنَّهُ يَعْتَبِرُ كَوْنَهَا رَاكِبَةً حَالَ الدُّخُولِ وَلَا يَعْتَبِرُ الرُّكُوبَ بَعْدَهُ كَذَا هَذَا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: إنْ خَرَجْت وَلَمْ تَأْكُلِي أَوْ خَرَجْت وَلَيْسَ عَلَيْك إزَارٌ أَوْ خَرَجْت وَلَمْ تَتَخَمَّرِي لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ قَالَ لَهَا إنْ لَمْ تُعْطِنِي هَذَا الثَّوْبَ وَدَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَإِنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا حَتَّى يَجْتَمِعَ الْأَمْرَانِ جَمِيعًا وَهُوَ أَنْ لَا تُعْطِيَهُ الثَّوْبَ إلَى أَنْ يَمُوتَ أَحَدُهُمَا أَوْ يَهْلِكَ الثَّوْبُ وَيُدْخَلَ الدَّارُ فَإِذَا اجْتَمَعَ هَذَانِ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ تَرْكَ الْعَطِيَّةِ وَالدُّخُولِ جَمِيعًا شَرْطًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَدَخَلْت الدَّارَ شَرْطٌ مَعْطُوفٌ عَلَى تَرْكِ الْعَطِيَّةِ وَلَيْسَ بِوَصْفٍ لَهُ؛ فَيَتَعَلَّقُ وُقُوعُ الطَّلَاقُ بِوُجُودِهِمَا ثُمَّ لَا يَتَحَقَّقُ التَّرْكُ إلَّا بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا أَوْ بِهَلَاكِ الثَّوْبِ، فَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا أَوْ هَلَكَ الثَّوْبُ وَدُخِلَتْ الدَّارُ فَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطَانِ فَيَحْنَثُ، وَلَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا تَدْخُلِينَ هَذِهِ الدَّارَ وَلَا تُعْطِينِي هَذَا الثَّوْبَ فَأَيَّهمَا فَعَلَتْ حَنِثَ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ النَّفْيِ دَخَلَتْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ فَيَقْتَضِي انْتِفَاءَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى- {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} وَمِنْ هَذَا الْجِنْسِ مَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَشْتَرِي بِهَذَا الدِّرْهَمِ غَيْرَ لَحْمٍ فَاشْتَرَى بِنِصْفِهِ لَحْمًا وَبِنِصْفِهِ خُبْزًا يَحْنَثُ اسْتِحْسَانًا وَلَا يَحْنَثُ فِي الْقِيَاسِ.
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ حِنْثِهِ أَنْ يَشْتَرِيَ بِجَمِيعِ الدِّرْهَمِ غَيْرَ اللَّحْمِ وَمَا اشْتَرَى بِجَمِيعِهِ بَلْ بِبَعْضِهِ فَلَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الْحِنْثِ فَلَا يَحْنَثُ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ مَبْنَى الْأَيْمَانِ عَلَى الْعَادَةِ وَعَادَةُ النَّاسِ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ أَنْ يَشْتَرِيَ الْحَالِفُ بِجَمِيعِ الدِّرْهَمِ اللَّحْمَ وَلَمْ يَشْتَرِ بِجَمِيعِهِ اللَّحْمَ فَيَحْنَثُ، فَإِنْ كَانَ نَوَى أَنْ لَا يَشْتَرِيَ بِهِ كُلِّهِ غَيْرَ اللَّحْمِ لَمْ يَحْنَثْ، وَيَدِينُ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ نَوَى ظَاهِرَ كَلَامِهِ فَيُصَدَّقُ، وَلَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَشْتَرِي بِهَذَا الدِّرْهَمِ إلَّا لَحْمًا فَلَا يَحْنَثُ حَتَّى يَشْتَرِيَ بِالدِّرْهَمِ كُلِّهِ غَيْرَ لَحْمٍ وَهَذَا يُؤَيِّدُ وَجْهَ الْقِيَاسِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ إلَّا وَغَيْرَ كِلَاهُمَا مِنْ أَلْفَاظِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَإِنَّا نَقُولُ: قَضِيَّةُ الْقِيَاسِ هَذَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَوَى أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ كُلِّهِ غَيْرَ اللَّحْمِ صُدِّقَ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّا تَرَكْنَا هَذَا الْقِيَاسَ هُنَاكَ لِلْعُرْفِ وَالْعَادَةِ وَلَا عُرْفَ هاهنا يُخَالِفُ الْقِيَاسَ فَعَمَدْنَا لِلْقِيَاسِ فِيهِ، وَلَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَشْتَرِي بِهَذَا الدِّرْهَمِ إلَّا ثَلَاثَةَ أَرْطَالِ لَحْمٍ فَاشْتَرَى بِبَعْضِ الدِّرْهَمِ لَحْمًا أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَرْطَالٍ وَبِبَقِيَّتِهِ غَيْرَ لَحْمٍ حَنِثَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَاَللَّهِ لَا أَشْتَرِي بِهَذَا الدِّرْهَمِ يَقَعُ عَلَى كُلِّ شِرَاءٍ بِهَذَا الدِّرْهَمِ ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ شِرَاءً بِصِفَةٍ وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ ثَلَاثَةَ أَرْطَالٍ وَلَمْ يُوجَدْ فَلَمْ يُوجَدْ الْمُسْتَثْنَى فَبَقِيَ مَا شَرَاهُ دَاخِلًا فِي الْيَمِينِ فَيَحْنَثُ بِهِ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَا إذَا قَالَ لِرَجُلَيْنِ: وَاَللَّهِ لَا تَبِيتَانِ إلَّا فِي بَيْتٍ فَبَاتَ أَحَدُهُمَا فِي بَيْتٍ وَالْآخَرُ فِي بَيْتٍ آخَرَ حَنِثَ لِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ حِنْثِهِ بَيْتُوتَتَهُمَا جَمِيعًا فِي غَيْرِ بَيْتٍ وَاحِدٍ وَقَدْ بَاتَا فِي غَيْرِ بَيْتٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُمَا بَاتَا فِي بَيْتَيْنِ فَوُجِدَ شَرْطُ الْحِنْثِ فَهُوَ الْفَرْقُ.
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ فِي رَجُلٍ قَالَ: إنْ كُنْت ضَرَبْت هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ إلَّا فِي دَارِ فُلَانٍ فَعَبْدِي حُرٌّ وَقَدْ ضَرَبَ وَاحِدًا مِنْهُمَا فِي دَارِ فُلَانٍ وَوَاحِدًا فِي غَيْرِهَا فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ حِنْثِهِ ضَرْبَهُمَا فِي غَيْرِ دَارِ فُلَانٍ وَلَمْ يُوجَدْ، وَلَوْ قَالَ: إنْ لَمْ أَكُنْ ضَرَبْته هَذَيْنِ السَّوْطَيْنِ فِي دَارِ فُلَانٍ فَعَبْدِي حُرٌّ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا حَنِثَ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْحِنْثِ أَنْ يَجْتَمِعَ الشَّرْطَانِ فِي دَارِ فُلَانٍ وَلَمْ يَجْتَمِعَا فَيَحْنَثَ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ عَلَى فُلَانٍ فَدَخَلَ عَلَيْهِ بَيْتَهُ فَإِنْ قَصَدَهُ بِالدُّخُولِ يَحْنَثْ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْهُ لَا يَحْنَثْ، وَكَذَلِكَ إذَا دَخَلَ عَلَيْهِ بَيْتَ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَ الْقَصْدُ لِيَكُونَ دَاخِلًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يَحْلِفُ أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَى غَيْرِهِ اسْتِخْفَافًا بِهِ وَتَرْكًا لِإِكْرَامِهِ عَادَةً وَذَا لَا يَكُونُ إلَّا مَعَ الْقَصْدِ.
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ عَنْ ابْنِ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ خِلَافَ هَذَا فَقَالَ فِي رَجُلٍ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَدْخُلُ عَلَى فُلَانٍ بَيْتًا فَدَخَلَ بَيْتًا عَلَى قَوْمٍ وَفِيهِمْ فُلَانٌ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْحَالِفُ فَإِنَّهُ حَانِثٌ بِدُخُولِهِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ الْقَصْدُ لِلدُّخُولِ عَلَى فُلَانٍ لِاسْتِحَالَةِ الْقَصْدِ بِدُونِ الْعِلْمِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ الْحِنْثِ الدُّخُولَ عَلَى فُلَانٍ وَالْعِلْمُ بِشَرْطِ الْحِنْثِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْحِنْثِ كَمَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ زَيْدًا فَكَلَّمَهُ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ أَنَّهُ زَيْدٌ، وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ مَا تَقَدَّمَ، وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ فِيهِمْ فَدَخَلَ يَنْوِي الدُّخُولَ عَلَى الْقَوْمِ لَا عَلَيْهِ لَا يَحْنَثْ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِأَنَّهُ إذَا قَصَدَ غَيْرَهُ لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا عَلَيْهِ وَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ دُخُولُهُ عَلَى الْجَمَاعَةِ وَمَا فِي اعْتِقَادِهِ لَا يَعْرِفُهُ الْقَاضِي، فَإِنْ دَخَلَ عَلَيْهِ فِي مَسْجِدٍ أَوْ ظُلَّةٍ أَوْ سَقِيفَةٍ أَوْ دِهْلِيزِ دَارٍ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ عَلَى الدُّخُولِ الْمُعْتَادِ وَهُوَ الَّذِي يَدْخُلُ النَّاسُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا فِي الْبُيُوتِ، فَإِنْ دَخَلَ عَلَيْهِ فِي فُسْطَاطٍ أَوْ خَيْمَةٍ أَوْ بَيْتِ شَعْرٍ لَمْ يَحْنَثْ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَالِفُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ لِأَنَّهُمْ يُسَمُّونَ ذَلِكَ بَيْتًا، وَالتَّعْوِيلُ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ وَقَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ: إذَا حَلَفَ لَا يَدْخُلُ عَلَى فُلَانٍ هَذِهِ الدَّارَ فَدَخَلَ الدَّارَ وَفُلَانٌ فِي بَيْتٍ مِنْ الدَّارِ لَا يَحْنَثُ وَإِنْ كَانَ فِي صَحْنِ الدَّارِ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ دَاخِلًا عَلَيْهِ إلَّا إذَا شَاهَدَهُ.
أَلَا تَرَى أَنَّ السَّقَّاءَ يَدْخُلُ دَارَ الْأَمِيرِ وَلَا يُقَالُ إنَّهُ دَخَلَ عَلَى الْأَمِيرِ، وَفِي الْأَوَّلِ شَاهَدَهُ وَفِي الثَّانِي لَمْ يُشَاهِدْهُ، وَكَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ عَلَى فُلَانٍ هَذِهِ الْقَرْيَةَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ دَاخِلًا عَلَيْهِ إلَّا إذَا دَخَلَ فِي بَيْتِهِ وَتَخْصِيصُ الْقَرْيَةِ يَمْنَعُ وُقُوعَ الْحِنْثِ بِالدُّخُولِ فِي غَيْرِهَا.
وَقَالَ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ: إذَا قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَدْخُلُ عَلَى فُلَانٍ وَلَمْ يَذْكُرْ بَيْتًا وَلَا غَيْرَهُ فَدَخَلَ فُسْطَاطًا أَوْ دَارًا حَنِثَ وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ مِنْ عَادَةِ فُلَانٍ أَنْ يُدْخَلَ عَلَيْهِ فِي الْفَسَاطِيطِ وَإِنْ دَخَلَ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ الْكَعْبَةِ أَوْ الْحَمَّامِ لَا يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذِهِ الْيَمِينِ الِامْتِنَاعُ مِنْ الدُّخُولِ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُكْرَمُ النَّاسُ بِالدُّخُولِ عَلَيْهِ فِيهَا وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي الْحَمَّامِ وَالْكَعْبَةِ وَالْمَسْجِدِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَلَوْ دَخَلَ عَلَى فُلَانٍ بَيْتَهُ وَهُوَ يُرِيدُ رَجُلًا غَيْرَهُ يَزُورُهُ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ عَلَى فُلَانٍ لَمَّا لَمْ يَقْصِدْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ دَاخِلًا عَلَى كُلِّ مَنْ فِي الدَّارِ فَيَحْنَثُ كَمَنْ حَلَفَ لَا يُسَلِّمُ عَلَى رَجُلٍ فَسَلَّمَ عَلَى جَمَاعَةٍ وَهُوَ فِيهِمْ وَلَا نِيَّةَ لَهُ.
قَالَ بِشْرٌ: سَمِعْت أَبَا يُوسُفَ يَقُولُ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ وَخَرَجْت مِنْهَا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَاحْتَمَلَهَا إنْسَانٌ وَهِيَ كَارِهَةٌ فَأَدْخَلَهَا ثُمَّ خَرَجَتْ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهَا ثُمَّ دَخَلَتْهَا وَلَمْ تَخْرُجْ وَقَعَ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ؛ لِأَنَّهَا لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ وَلَا عَادَةَ فِي تَقَدُّمِ أَحَدِ الشَّرْطَيْنِ عَلَى الْآخَرِ فَيَتَعَلَّقُ الطَّلَاقُ بِوُجُودِهِمَا مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ، وَكَذَلِكَ الْقِيَامُ وَالْقُعُودُ وَالسُّكُوتُ وَالْكَلَامُ وَالصَّوْمُ وَالْإِفْطَارُ وَنَحْوُ ذَلِكَ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ قَالَ لَهَا إنْ حِضْتِ وَطَهُرْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَطَهُرَتْ مِنْ هَذَا الْحَيْضِ ثُمَّ حَاضَتْ لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ حَتَّى تَطْهُرَ، وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ حَتَّى يَتَقَدَّمَ الْحَيْضُ الطُّهْرَ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لَهَا إذَا حَبِلْتِ وَوَلَدْتِ وَهِيَ حُبْلَى، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ إذَا زَرَعْت وَحَصَدْت لابد مِنْ تَقَدُّمِ الزَّرْعِ الْحَصَادَ، وَالْحَمْلِ الْوِلَادَةَ، وَالْحَيْضِ الطُّهْرَ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ يَتَعَقَّبُ الْآخَرَ عَادَةً فَلَزِمَ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ بِالْعَادَةِ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ تَزَوَّجْتُك وَطَلَّقْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً بَائِنَةً ثُمَّ تَزَوَّجَهَا عَتَقَ عَبْدُهُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ التَّزَوُّجَ لِلْحَالِ لِكَوْنِهَا زَوْجَةً لَهُ وَتَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ فَيُرَاعَى فِيهِ مَعْنَى الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ لَا التَّرْتِيبِ، وَمَتَى طَلَّقَهَا وَتَزَوَّجَهَا فَقَدْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَوُجِدَ الشَّرْطُ.